الأخبار

مرض الطاعون "الموت الأسود": ما هي الدروس التي يمكن الاستفادة منها عن انتشار الأمراض على طول طرق الحرير

تسلط هذه المقالة الضوء على انتشار مرض الطاعون، المعروف باسم "الموت الأسود"، عبر طرق الحرير في القرن الرابع عشر الميلادي. حيث يتم هنا تسليط الضوء على الوسائل التي استعمالها الناس في مواجهة هذا المرض والنظر في طرق الاستجابة إلى التحديات الناشئة حديثًا في يومنا هذا، وذالك عن طريق استخدام طرق الحرير كمثال تعليمي لفوائد العالم المترابط  المبني على التعاون وتبادل الخبرة والمعرفة في الوقت المناسب.

يمكن استخدام مرض الطاعون " الموت الأسود" كمثال ملهم للتعامل مع التحديات التي يسببها تفشي الأوبئة في عالمنا المعاصر. على عكس القرن الرابع عشر، يمكننا اليوم تحديد الفيروسات الجديدة، وتسلسل الجينوم الخاص بها، وتطوير اختبار موثوق للتعرف على المرض في غضون أسابيع قليلة فقط. قد يكون من المغري في أوقات صعبة، كتلك التي يواجهها العالم حاليا في الانتشار السريع لكوفيد-19، الاستنتاج أن الطريقة الوحيدة لمنع تلك المخاطر مثل انتشار الأمراض المعدية هي تقييد الحركة والتبادل التجارية، والتراجع بطريقة ما إلى الخلف فيما يخص العولمة وترابط الثقافات والشعوب المختلفة. ومع ذلك، فإن انتشار الطاعون في عالم بدون وجود وسائل النقل الحديثة مثل الطائرات والقطارات والسفن السياحية ماهي الا بمثابة تذكير بأن الأمراض يمكن أن تتحرك بسرعة حتى بدون وجود هذه التكنلوجيا.

على الرغم من أننا نعيش في عصر العولمة المكثفة التي تبدو غير مسبوقة، فإن حركة البشر والتبادل والترابط الواسع النطاق ليست بظواهر حديثة. في الواقع، انتقل الناس دائمًا من مكان إلى آخر وتبادلوا السلع والمهارات والأفكار عبر مسافات شاسعة النطاق. أن حصول مرض الطاعون "الموت الأسود" وانتشاره على طول طرق الحرير يعتبر بمثابة تذكير مناسب بأن أحد أعظم الدفاعات ضد التحديات الناشئة حديثًا هو التبادل والتحليل الجماعي للمعرفة والخبرة الموثوقة. على الرغم من السرعة الهائلة لتنقل الناس والبضائع في جميع أنحاء العالم اليوم، فإن البشر مستعدون جيدًا وحاضرون لمواجهة التحديات التي قد تنتج عن هذه التفاعلات المكثفة، وذلك بفضل التعاون ومشاركة الخبرات والمعرفة إلى حد كبير، والتي ستستمر في لعب دور مهم وقيم جدا في معالجة ومنع انتشار الأمراض.

تمثل طرق الحرير مثالا يذكرنا بأن البشر لا يعيشون في مناطق ومدن منعزلة ولكن في مدن ومجتمعات مشتركة ومترابطة تزدهر وتنمو عندما تتفاعل مع بعضها البعض. لقد ساهمت تلك التفاعلات والتبادلات عبر تلك المسافات الشاسعة، كتلك التي حدثت على طول هذه الطرق التاريخية، مساهمة لا يمكن إنكارها في إثراء الحياة والثقافة للشعوب والحضارات. واليوم، كما كان الحال في الماضي، يمثل تزايد الترابط بين البشر والتنقل عبر المناطق والمدن المختلفة إحدى تحديات عصرنا ولكن أيضًا فرصة في العديد من المجالات بما في ذلك العلوم والطب وعلم الأوبئة، والذي ساهمت إلى حد كبير في تحسين وتطوير حياتنا اليومية. كان للحركة والاندماج المستمر بين الشعوب على طول طرق الحرير تأثير عميق على تاريخ وحضارات شعوب منطقة أوروبا وآسيا وفي جميع أنحاء العالم، حيث كانت عاملا مميزا في تنمية المعرفة والأفكار والمعتقدات والثقافة والهويات. كما وتم نشر العلوم والفنون والأدب، وكذلك المعرفة والخبرة والحرف والتقنيات المختلفة في المجتمعات على طول هذه الطرق التاريخية.

ومع ذلك، أينما تحرك الناس والحيوانات والسلع وساهموا في حصول تأثيرات غنية، فقد تم أيضًا نقل الظواهر غير المرغوب فيها مثل الأمراض على نطاق واسع. فكما كانت الحركة والترابط الواسع النطاق ليسا ظاهرتين جديدتين، كانت احتمالية حدوث الأوبئة وانتشارها موجودة أيضاً. ومن بين الأنواع المختلفة من الطفيليات والبكتيريا والفيروسات والأمراض المرتبطة بها، والتي تنقلت وانتشرت على طول طرق الحرير، كان مرض الطاعون أبرزها. والطاعون هو مرض تسببه بكتيريا يرسينيا بيستيس، وعادة ما يتم حملها من قبل البراغيث. وحدثت ثلاث أوبئة لمرض الطاعون في تاريخ البشرية: أشهرها وربما أكبرها كان التفشي الثاني والذي يشار إليه غالبًا باسم "الموت الأسود"، الذي أصاب أعدادًا كبيرة من الناس في جميع أنحاء منطقة أوروبا وآسيا، وقتل ما بين 75 و200 مليون شخص. بلغت الذروة في تفشي المرض بين العام 1347 والعام 1351، حيث وصلت إلى الموانئ التجارية في أوروبا بحلول العام 1346. وهناك عدد من النظريات حول مكان نشأة مرض الطاعون في القرن الرابع عشر وكيفية انتشاره بالضبط. ولكن أحد أكثر ما تم الاستشهاد به هو أنه تم نقله بواسطة القوارض المصابة عبر طرق الحرير، والوصول إلى أوروبا مع التجار المصابين والمسافرين.

كانت المجتمعات محدودة للغاية في مجال قدرتها على علاج ومنع انتشار مرض الطاعون في القرن الرابع عشر حيث لم تكن هناك معرفة وخبرة واضحة متاحة عن السبب الدقيق للمرض أو العلاجات الفعالة التي يمكن استخدامها. وبالتالي ظل الفرار من الاشخاص والمناطق المصابة من التدابير الصحية الوقائية الفعالة الوحيدة المتاحة للناس في ذلك الوقت. في حين أن محاولات علاج مرض الطاعون كان لها تأثير ضئيل جدًا، إلا أن الموت الأسود دفع أوروبا وأجزاء أخرى من العالم إلى توسيع وتحسين تدابير الصحة العامة، خاصة في العقود والقرون اللاحقة حيث استمر المرض في العودة بشكل دوري. علاوة على ذلك، لا تزال بعض الطرق لمنع انتشار مرض الطاعون مستخدمة اليوم، مثل وضع السفن المشتبه بها والمسافرين في عزلة لمدة 40 يومًا قبل السماح لهم بدخول مدينة البندقية، ومن هذه الممارسة نستمد مصطلح "الحجر الصحي".

إن انتقال الموت الأسود، والضرر الذي أحدثه للمجتمعات المختلفة في آسيا وأوروبا، هما بلا شك أمثلة على كارثة كبرى ساعدت الأنشطة التجارية وحركة البشر على تفاقمها. ومع ذلك، يكشف تقييم شامل لنتائج التبادلات على طول طرق الحرير أنه على الرغم من بعض الآثار السلبية، فقد جلبت هذه التفاعلات فوائد كبيرة وأثرت على حياة وثقافة الإنسان. في الواقع، كانت العلوم الطبية واحدة من المستفيدين بشكل مباشر من هذه التبادلات بين تلك الشعوب والحضارات. خلال فترة العصور الوسطى أو "حقبة ما بعد الكلاسيكية" (500-1450م)، قدم العلماء مساهمات كبرى وقيمة في مجالات الطب والصيدلة والعلوم البيطرية بفضل تداول المعرفة والأفكار. وقامت حركة الناس والمعرفة عبر طرق الحرير على تسهيل الحصول على الترجمة الواسعة لتلك الخبرات والمعرفة القادمة من أجزاء أخرى من العالم إلى اللغة العربية، مما جعل مجموعة واسعة من المعارف والبحوث الدراسية في متناول العلماء والمفكرين في يومنا هذا. حيث إن أعمالهم وبحوثهم تم توليفها وبناءها على المعرفة الطبية الموجودة، مثل تلك التي تم تطويرها في اليونان القديمة وروما، ودمج هذا مع المعرفة من مناطق أخرى من العالم مثل الصين وشبه القارة الهندية.