فكرة

قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت

لا أحد يمكنه أن ينفي الاهتمام الذي نوليه إلى الطعام. ولعلّ انتشار الكتب والبرامج والأفلام والمسلسلات حول هذا الموضوع أفضل شاهد على ذلك في وقت يعتلي فيه الطبّاخون سدّة النجوميّة. وتعكس ظاهرة "تقديس فنون الطّبخ" هذه تحوّلات بصدد رسم معالم نظام غذائي عالمي جديد.
Gregg Segal

غوستافو لابورد

دكتور في الأنثروبولوجيا، متخصّص في تاريخ وثقافة التغذية، وأستاذ في كلية علوم التغذية في جامعة الجمهورية بالأوروغواي.

تخضع عملية الأكل إلى مبدأ الامتصاص، إذ للأطعمة التي نتناولها تأثيرات بيوكيميائية ملموسة على الجسم. لذلك، نحن، بالمعنى الحرْفي للعبارة، على هيئة ما نأكله. غير أنّ العكس صحيح  أيضا إذ أنّنا نأكل ما يتناسب مع هويّتنا. فنحن لا نقتصر على امتصاص الأغذية وحسب عندما نأكل، بل نقتات معها بالرّموز والدّلالات إذ أنّ جميع الثقافات تضفي معنى معيّنا على أطعمتها، فهناك أطباق يومية وأخرى خاصّة بالمناسبات والاحتفالات، وهناك وجبات رئيسية وأخرى خفيفة، إضافة إلى أطعمة تؤكل وأخرى لا تؤكل. هكذا، لا يشكّل الطّعام شبكة من المعاني وحسب، بل إنّه عنصر أساسي في بناء الهويّات الجماعيّة والفرديّة.

لقد دخلت هذه الهويّات، على مدى الثلاثين عامًا الماضية، مرحلة تحوّلات تجلّت في سلوكيات غذائية مفارقة حيث أنّ هذا "النظام الغذائي الجديد" تشقّه حركتان متعارضتان تتمثّل الأولى في عولمة نظام غذائي موحّد -غالبًا ما يوسم بـ "الغربي"- استنادًا إلى وفرة منتجات اللّحوم ومشتقّاتها، والأطعمة المصنّعة، والسكّريات المكرّرة، والدّهون المشبعة، والكربوهيدرات؛ في حين يتمثّل الثاني في بروز نزعةٍ نحو تميّز الأنظمة الغذائية بطابع فردي، بما يسمح برسم فسيفساء من الميول المجزّأة نحو طرق في الأكل أكثر خصوصيّة، أي نحو استهلاك غذائي "حسب الطّلب".

نشهد اليوم عولمة نظام غذائي منمّط

ولهذا التفرّد أثره في أخذ مسافة من التّقاليد وابتكار عادات غذائية خاصّة حيث أصبح المستهلك المرهف الحسّ قادرا اليوم على التّعامل بكلّ وعي مع الدّلالات الرمزية بهدف بناء هويّته الخاصة لأنّ الاستهلاك يصوغ اليوم، وإلى حدّ كبير، نمط حياتنا.

طقوس اجتماع العائلة حول الأكل

قليلة هي الأنشطة التي تضاهي تناول الطعام في تكرّرها اليومي. ومع ذلك، فإن هذه العملية المُتكررة ما فتئت تفسح المجال أمام مسرحة الحميميّ.

لقد أضحى طقس اجتماع العائلة حول طاولة الأكل وأمام التلفزيون في عداد الماضي البعيد. فبقدر ما تتعدّد الشّاشات، تنزع التوجّهات الغذائية إلى التّذرية. وليس من النّادر أن نرى اليوم أفراد الأسرة الواحدة وهم يتناولون وجبات فرديّة كلّ أمام شاشته الخاصة، فهذا أمام طبق من الخضار للنّباتيين، وذاك يأكل طعاما خالٍ من الغلوتين لمرضى الاضطرابات الهضمية، والآخر يتناول مكمّلات غذائية من الفيتامينات للرّياضيّين، ورابع يفتح علبة طعام ليسخّنها بسرعة لأنّه على عجل أو لا يرغب في الطّهي.

هذا التنوّع في طريقة تناول الغذاء يكشف عن انزياح عن التقاليد الغذائية التي كانت تضفي هويّات جماعية على مناطق وأمم مختلفة عبر العالم. فكثيرون هم من يتغذّون اليوم على نحو مختلف عن أجدادهم أو حتى عن آبائهم. ومع ذلك فإنّه لا يمكن أن نستنتج أنّ الهويات الجماعية آخذة في الاضمحلال، بل هي، بكل بساطة، بصدد التغيّر. فعندما ينخرط الأفراد في نظام غذائي معيّن فهم يسجّلون انتماءهم إلى هويّات تتجاوز الأسرة أو المنطقة أو البلد ويندمجون في مجتمعات عابرة للأوطان تشتغل بمنطق الشّبكة.

تناول الطّعام ضمن شبكة افتراضية

بالتّوازي مع ذلك، تشهد طريقة التّشارك في الطّعام ممارسات جديدة. ففي عدد من المجتمعات الآسيوية وُلدت، منذ بضع سنوات، ظاهرة جديدة تعرف بالـ "موكبانج Mukbang"، وهو مصطلح كوريّ يمكن ترجمته بـ "الفطور عن بعد" Télérepas وتتمثّل في التهام كميّة من الطّعام، قد تكون أحيانا هائلة، أمام كاميرات فيديو وفي تفاعل مع الجمهور المرتبط بالشبكة. وتتوافق هذه الظّاهرة في تناول أشخاص كثيرين وجباتهم على انفراد مع ضرورة ابتكار طريقة افتراضية جديدة في التّشارك في الأكل. هذا أصبح تقاسم وجبة الطعام يتمّ أيضا على إطار شبكة افتراضية.

السلوكيات الغذائية عنصر أساسي في بناء الهويّات الجماعيّة والفرديّة التي هي بصدد التغيّر.

غالبًا ما تكون فرادة النظام الغذائي نتيجة اختيار شخصي حيث يقرّر الفرد أن يكون نباتيًا، أو قارتًا (كالشا)، أو أن يتغذّى من منتجات عضوية أو محلية أو موسمية، أو أن يستهلك أطعمة غير صحّية ولكنّها مشبِعة لرغباته، وأن يكون أكولا نهما أو مكتفيا بتناول أغذية صحية تساعد على تصفية الجسم من السّموم. وقد تكون أسباب هذه الاختيارات أخلاقية، أو تمليها الحاجة إلى تكييف النظام الغذائي وفقًا لأمراض معينة، أو بسبب الحساسية تجاه بعض المأكولات أو رفض الجهاز الهضمي للطعام. كما يمكن لهذه الأسباب أن تعكس ظاهرة إضفاء طابع طبيّ على الطعام حيث يعمد الفاعلون التجاريّون في السوق إلى تحويل بعض الأطعمة إلى "علاجات" تكافح الأمراض، وتسهّل العبور المعوي، وتحارب الأكسدة، وتُطيل العمر، وفقا لمنطق اقتصادي يتّجه نحو سلعنة جميع أوجه الحياة.

التّسامي بالتّجربة

لقد أضحى تناول الطعام تجربة في حدّ ذاتها، وصار إشباع هذه الرغبة يتحوّل إلى مغامرة ذاتية يخاطر فيها النّاس بإمكاناتهم الاقتصادية ورأسمالهم الثقافي، ويسعون من ورائها، بالخصوص، إلى البحث عن هويّتهم الخاصّة.

إنّ ثقافة الاستهلاك تحثّ على الغرائبيّة والتّجديد. لذا فإنّ بعض المنتجات تكتسب قيمة اقتصادية أعظم إذا ما مرّت عبر مجال استهلاك يُسنِد لها علامة تجاريّة مرتبطة بخطاب الأصالة، سواء باعتبارها "إثنيّة" أو "حِرَفيّةً" أو "تراثية" أو "طبيعيّة". ونستحضر في هذا المجال مثال نبات الكينُوا quinoa القادم من جبال الأنديز، وشاي بوـ إيره pu-erh  المستقدم من مقاطعة يونان الصينية، أو الجبن المصنوع يدويًا والمتأتّي من جبال البرانس، ولحم البقر الذي توفّره المراعي الطبيعيّة بالأوروغواي.

ووفق هذا المنطق ذاته، توفّر السياحة واحدة من أكثر أشكال الذِّواقة (التثقيف على تذوّق الأطعمة) gourmetisation دينامية وأقدرها على إشباع الرغبة في البحث عما هو غير مألوف حيث تُقدّم للرحّالة تنويعة واسعة من التجارب لتذوّق أطباق وأطعمة فريدة من نوعها. وفي هذا الصّدد، تسعى بلدان عديدة إلى تطوير ما يُعرف بدبلوماسيّة فنون الطبخ Gastrodiplomatie، وهي استراتيجية تقوم على استعمال الأطباق المحليّة كطُعم لجلب الزوّار، كما تهدف إلى تحفيز الاقتصاد والتّنمية المحلية وفق منهجين اثنين إذ إضافة إلى جذب السُّيَّاح إلى البلد، فهي تضمن لمنتجاتها وطهاتها مكانة مرموقة تتحوّل إلى علامة جودة تُسوّق إلى الخارج.

بيد أنّه يمكن مقاربة الذِّواقَةِ بطرق أكثر تقليدية، فأمام تكثّف المواد الاستهلاكية المنمّطة صناعيّا، أصبحنا ننشد منتجات متميّزة عن هذه الأخيرة. لقد صار الطّبخ في مجتمع اليوم موضوعًا للاستهلاك ولم يعد وِزرًا منزليًا ثقيلًا بل تحوّل إلى هواية جذّابة ومسليّة. ولم تعد زراعة الخضار للاستهلاك الخاص، وشراء حبوب البنّ عن طريق التّجارة العادلة، وتفضيل المنتجات العضوية، أو تحضير مشروب الكومبوتشا محلّي الصنع، مجرّد ميول ذوقيّة بل صارت هذه الأشكال الاستهلاكية المبتدعة تعبّر عن مواقف جمالية وسياسية وهُوَوِيَّةٍ بالأساس.

بيد أنّ هذه الممارسات الجديدة لا تخلو من آثار سلبية، فدخول بذرة الكينوا quinoa إلى سوق الذّواقة، شكّل خطرا على السكان الأصليين لجبال الأنديز الذين يعتمدونها كمادّة أساسية في نظامهم الغذائي حيث أصبح الحصول عليها صعبا. وأمّا عن إضفاء طابع طبي على الأغذية فهو محض أوهام وافتراء. كما يُؤدّي القضاء على التّشارك في الطّعام إلى تآكل الرّوابط الاجتماعية بعد أن كان يساعد على تقويتها.

لكن رغم من كل هذه القيود فإن قدرة فنّ الطبخ على المرونة وإعادة ابتكار نفسه دون انقطاع لأمر مثير للإعجاب. فالطّبخ يظلّ في قلب الحياة الاجتماعية ويواصل بناء الهويّات، كما يظل مدوّنة متقاسمة -ماديًا وافتراضيًا- ونظام تواصل فعّال للغاية.

التّرجمة سفر من عالم إلى آخر
اليونسكو
أبريل-يونيو 2022
UNESCO
0000381067