مقال

لبيروت: متحف سرسق الأسطوري يعود إلى الحياة

Sursock Museum

بدقة شديدة يشرع أحمد في العمل، واقفًا على سلّمه وممسكًا بيده ريشةً، ليعيد زخارف أروقة الصالة العربية إلى مجدها السابق، في الطابق الأول من متحف سرسق. العمل في دقّته وحرفيّته على مستوى المكان، وهو جوهرة معمارية حقيقية تم بناؤها على تل في منطقة الأشرفية في العاصمة اللبنانية، تجمع بين الطرازين الفنيقي والعثماني. بالفعل، إن أروقة هذا القصر، الذي أصبح متحفًا في عام 1961، شهدت على مرور فنانين من الشرق الأوسط وحول العالم على مر السنين. وكان الرئيس كميل شمعون يستخدمه كوجهة مبهرة للترحيب بكبار الشخصيات الزائرة، وقد تركت مواهب لبنانية مشهورة مثل شفيق عبود وبول غيراغوسيان وسلوى روضة شقير وعارف الريس بصماتها في المكان. يتذكر سيزار نمور، الناقد الفني الشهير الذي توفي عام 2021، أن "الستينيات كانت فجر تحول بيروت إلى مركز ثقافي، وبداية حركة كان لها تأثير على العالم العربي بأسره". "كان الفنانون متحمسين. وكانت تتلقى لجنة الاختيار في المتحف بانتظام أكثر من 300 طلب، لتختار  80 منها، مما خلق فكرة أنه إذا تم قبولك من قبل متحف سرسق، فهذا يعني أنك وصلت إلى مرحلة مهمة، وكانت أمسيات المتحف لا تنسى ".

Sursock Museum

ولكن في هذا النهار الربيعي في مدينة بيروت، يسود الصمت أروقة هذه المؤسسة الثقافية التي كانت تعج بالحياة قبل ثلاث سنوات، والتي تضررت بشدة جراء انفجار مرفأ بيروت المدمّر، على بعد بضع مئات من الأمتار. متحف سرسق، الذي تم تجديده وتوسيعه بالكامل بين عامي 2007 و 2015، والذي لم يتوقف نشاطه أبدًا خلال الحرب، أرغم على اغلاق أبوابه بسبب حجم الدمار. تتذكر إلسا حكيّم، التي كانت آنذاك نائبة مدير المتحف، الأمر كما لو كان بالأمس. تقول: "كنا في مكاتبنا عندما وقع الانفجار وكان الأمر كما لو أن المتحف بأكمله قد انهار". "وقفنا أنا وزميلتي على الدرج بين المكاتب لفترة طويلة، والغبار يغمرنا، حيث بدا لنا أنه المكان الآمن الوحيد. لم نتمكن من مغادرة المبنى إلا بعد حوالي ثلاثين دقيقة دون أن نفهم ما حصل بالفعل. كان الدمار يفوق التصوّر وكأنها نهاية العالم. كانت النوافذ الزجاجية الملونة مكسورة واللوحات على الأرض ممزّقة. لم يبق شيء في مكانه. حتى يومنا هذا، أجد صعوبة في تقبّل ما حدث. لقد تأثرنا في عمق كياننا."

 

Sursock Museum
Sursock Museum

مجتمع متجدد

على الرغم من الدمار، يستعد متحف سرسق الشهير، وهو مؤسسة ثقافية فريدة من نوعها في الشرق الأوسط، لإعادة فتح أبوابه في شهر أيّار المقبل. وهذا بعد تدخل طارئ مهّد الطريق لورشة إعادة تأهيل ضخمة بتمويل من الحكومة الإيطالية، من خلال الوكالة الإيطالية للتعاون الإنمائي (AICS).و يشكل مشروع اليونسكو هذا الذي تبلغ قيمته أكثر من مليون يورو، أكبر استثمار حتى الآن من قبل جهة مانحة للتراث الثقافي للعاصمة اللبنانية، في إطار مبادرة اليونسكو الرائدة، لبيروت. وأتاح المشروع  استكمال الأعمال اللازمة المتعلقة بأنظمة الإضاءة لصالات العرض، واستبدال الفواصل الداخلية، وترميم أبواب النار، والجدران الزجاجية، والمعدات الملحقة، وكذلك تركيب الأنظمة الكهروميكانيكية وألواح الطاقة الشمسية لضمان الحفاظ على البيئة الخضراء واستهلاك مستدام للطاقة. "متحف سرسق هو أول مشروع إعادة تأهيل أطلقته إيطاليا واليونسكو في مجال التراث الثقافي بعد الانفجار، ويمثل دليلاً رئيسياً على التزامنا باستعادة بيروت عافيتها، تقول سفيرة إيطاليا في لبنان، نيكوليتا بومبارديير. نحن نؤمن إيمانا راسخا بأن الثقافة وحماية التراث ضروريان أكثر من أي وقت مضى في أوقات الأزمات".

تصريحات تثني عليها الفنانة والمخرجة جوانا هادجيتوماس، وهي من الفنانين الذين يتردّدون الى المتحف بانتظام. هي مسرورة بقرب انتهاء الأعمال وتقول: "متحف سرسق هو مكان أساسي في مدينة بيروت حيث كنا نحب أن نذهب دائمًا، وقد شهد العديد من المعارض وصالونات الخريف. إنه واحد من هذه الأماكن المهمة للمجتمع الثقافي لأنه ينشئ روابط. أولاً بين الفن الحديث والمعاصر ولكن أيضًا بين الماضي والحاضر. يضمن هذا المتحف، الشامل بمجموعاته الدائمة وصوره، الاستمرارية في بلد يعاني من الكثير من التمزقات. في لبنان، يكبر الفنانون دون أن يعرفوا من سبقهم وهذا هو المكان الذي يلعب فيه متحف سرسق دورًا أساسيًا. دون أن ننسى أنه مكان يعيش في الوقت الحاضر، حيث يتم تقديم العديد من الأنشطة في واحدة من المساحات القليلة الثقافية العامة في بيروت."

 

مع إعادة الافتتاح الوشيكة للمتحف، سيتم عرض المجموعة الدائمة بالإضافة إلى مجموعة فؤاد دباس الشهيرة مرة أخرى. ستستضيف الصالتان التوأم اللتان تم تجديدهما بالكامل أعمالاً فنية لثلاثة فنانين لبنانيين أثبتوا أنفسهم، وهم السينمائي أحمد غصين ومروى أرسانيوس والمخرجة والفنانة والباحثة والمهندسة سابين سابا. أما ماري نور حشيمة، القيّمة على المعرض، فهي مقتنعة بأن "إعادة افتتاح متحف سرسق بفضل دعم اليونسكو وإيطاليا سيُحدث فرقًا في القطاع الثقافي." "يوفر هذا المتحف منصة للفنانين لعرض أعمالهم وأيضًا للشروع في مشاريع جديدة والتعرف على الجمهور وحضور العديد من الفعاليات. عانت الحياة الثقافية بشكل كبير بسبب الانفجار وهجرة الفنانين. نحن بحاجة إلى ظروف عمل جيدة ومؤسسات ملهمة لتحقيق التعافي."

 

عند مدخل المتحف، يأخذ المارة استراحة للاستمتاع بالمبنى الأبيض ونوافذه الزجاجية الملونة وسلالمه غير النمطية. يتجول آخرون في الباحة للجلوس في الظل في المقهى المجاور. تقول لمى، وهي شابة لبنانية تعيش الآن في نيويورك: "قضينا وقتًا ممتعًا للغاية مع أصدقائي من الخارج في متحف سرسق قبل بضع سنوات. إنه مكان رمزي في الحياة السياحية لبيروت، واستئناف نشاطه قريباً لا يمكن الّا أن يكون مفيداً في هذه الأوقات الصعبة." "أعتقد أن عودة متحف سرسق إلى الحياة تبعث في الواقع برسالة أمل، يقول أنطوان، رفيقها. أن نعرف أن الناس يعملون بلا كلل لإعادة بناء بيروت. في جميع أنحاء العالم، لا نسمع سوى أخبار سلبية عن لبنان. ولكن عندما نزور هذا المكان، ونكتشف مشروع إعادة التأهيل هذا، فنكون على يقين أن هناك إرادة حياة وطريق  يُرسم للمضي قدمًا."

Sursock Museum

لبيروت" مبادرة دولية رائدة أطلقتها المديرة العامة لليونسكو أودري أزولاي من بيروت في أعقاب تفجيري المرفأ، في 27 آب 2020، لدعم إعادة تأهيل المدارس والمباني التراثية التاريخية والمتاحف والمعارض والصناعة الإبداعية، والتي تعرّضت جميعها لأضرار جسيمة.

Sursock Museum
Sursock Museum
Sursock Museum
Sursock Museum
Sursock Museum
Sursock Museum
Sursock Museum
Sursock Museum